مقدمــــة..
إن مقارنة المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين بالتجارب الاستيطانية الأوروبية في الولايات المتحدة، كندا، أمريكا اللاتينية، جنوب إفريقيا، استراليا، الجزائر جنوب شرق آسيا، روديسيا (زيمبابوي حالياً) موزمبيق، كينيا وانغولا تبين لنا أن القاسم المشترك الأعظم بين هذه المشاريع الاستيطانية هو أنها رافقت، أو جاءت بعد حملات استعمارية، كان هدف المستوطنين فيها دعم المستعمرين، من جهة واستغلال السكان المحليين، إلى أقصى درجة ممكنة. من جهة أخرى، وفي أحيان كثيرة نجحت الهجرات الجماعية الكبيرة من المستوطنين الذين ينتمون إلى الدول الأوروبية الاستعمارية في تحقيق السيطرة السياسية في الإقليم القريب، ومن يسكن فيه، وفي النهاية أعلنت الكيانات الاستيطانية التي شكلت ما يعرف بالأمم المتحدة قيام دولة أو دول المستوطنين، سواء تم القضاء على السكان المحليين وإبادتهم، كما جرى في الولايات المتحدة، كندا واستراليا، أو اخضعوا بفعل آليات السيطرة والقهر لدولة المستوطنين، كما جرى في جنوب أفريقيا، موزانبيق، روديسيا والكثير من دول المحيط الأطلسي والهادي.
إلى ذلك، إن النظرة الصهيونية إلى السكان العرب في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي فلسطين بشكل عام، هي استمرار لنظرة الاستعمار الأوربي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين إلى سكان المستعمرات، فقد اعتبرت شعوبها أقل شأناً ويستحقون أن يمارس الاحتقار ضدهم وبشكل علني، وأن تسند إليهم مهمة القيام بالأعمال الحقيرة في المجتمعات التي يسيطر عليها المستوطنون، وثمة فارق بسيط هو أن الصهيونية تـتــبع منهجاً مختلفاً هو أقرب إلى عقيدتها، وينبع من التفوق اليهودي المزعوم، من خلال الدعوة إلى عزل العرب تمهيداً لإجبارهم على الخروج من الأرض التي يعيشون فوقها.
ولقد استفزت الممارسات العنصرية للمستوطنين، حتى في بدايات المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، بعض المتنورين من قادة الحركة الصهيونية أنفسهم، مثل احادها عام، الذي قال في تقرير كتبه عام 1891: (إنهم يعاملون العرب بروح العداء والشراسة، ويمتهنون حقوقهم، ويحرمونهم من ممارستها، ويوجهون لهم الإهانات، ويسيئون إليهم دون مبرر، حتى إنهم يفاخرون بتلك الأعمال الخسيسة).
وثمة وجه آخر للمقارنة بين التجربة الاستيطانية في كل من جنوب أفريقيا وفلسطين، وذلك فيما يتعلق بالنظرة إلى الأرض، ففي فلسطين، أنشأت المنظمة الصهيونية العالمية الصندوق القومي اليهودي عام 1901 ليكون المالك الوحيد للأرض التي تستولي عليها المنظمة الصهيونية، وهكذا، وكلما اتسعت رقعة الاستيطان الصهيوني، لا تتناقص مساحة الأرض المحددة للعرب فحسب بل وينحصرون في مناطق معينة يصبح فيها من المتعذر عليهم العيش خارجها. تماماً كما جرى في جنوب أفريقيا، إذ استهدف الاستيطان هناك تجميع السكان الأصليين في بقع محصورة لا يجوز لهم أن يتملكوا أو يعملوا خارجها. واللافت للنظر أن الكيانين الاستيطانيين المذكورين استخدما الأساطير والمقولات المؤسسة المستمدة من التوراة التي تؤيد التفوق العرقي وعدم المساواة بين الأمم والشعوب.
وبشكل عملي، يؤدي التشابه في بنية ووظيفة التجربتين الاستيطانيتين في جنوب أفريقيا وفلسطين إلى خلق الأداة نفسها ـ المستوطن الأبيض الذي يؤدي الوظيفة ذاتها ويلعب الدور نفسه. ويعلق الصحفي الإسرائيلي جبرائيل شنكر في مقال نشرته صحيفة عل همشمار بتاريخ 12/5/1976 بقوله: (اليهودي في إسرائيل وبشكل خاص، اليهودي الغربي، يلعب الدور الذي يلعبه الأبيض في جنوب أفريقا، والعرب في ظل الاحتلال هم في وضع مماثل تماماً لوضع السود في أفريقيا، اليهودي في إسرائيل = الأبيض في جنوب أفريقيا = مستوطن أجنبي = رب عمل مستغل = ناهب وعنصري. العربي في إسرائيل = الأسود في جنوب أفريقيا = مواطن أصلي = عامل مستغل، منهوب يتعرض للتمييز العنصري).
ولا بد لأي إنسان أن يستنتج أن الأبارتيد في كلا البلدين هو النظام السائد وهذه هي المقولة الأساسية التي يحاول الكتاب اثباتها.
منهج البحث:
خلافاً للرأي السائد، فالأبارتيد ليس فقط مجموعة من القوانين والتشريعات التي تشرعن التمييز ضد الآخرين، إنه نظام سياسي / اقتصادي واجتماعي، وهو جزء لا يتجزأ من تشكيلة اجتماعية اقتصادية محددة الملامح تسود فيها علاقات انتاج محددة.
واستناداً إلى هذه الرؤية، اعتمدنا في بحثنا المنهج التالي: في الفصل الأول يجري التعريف بالأبارتيد كظاهرة متعينة، والقيام بمقارنات بين أبرز تجليات الأبارتيد في الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وإسرائيل، وذلك استناداً إلى المبدأ الفكري المعروف «أن الجوهر واحد وتجلياته مختلفة»، وفي الوقت ذاته، إن تجليات الأبارتيد في مكان معين، لابد أن تحمل سمات الكل، وهذا يشمل، وعي الذات عند المستوطنين، النظرة إلى السكان الأصليين، طريقة التعامل معهم، ودور المؤسسات التشريعية في وضع القوانين والتشريعات اللازمة لذلك. وقد نوهنا في الوقت ذاته إلى خصوصية الأبارتيد في الكيان الصهيوني، بسبب تعقيداته وكثرة تجلياته، لأن تطبيقاته على اللاجئين تختلف نسبياً عنها فيما يتعلق بالعرب في الأراضي المحتلة عام 1948، وأخيراً أيضاً تختلف عن الآليات المتبعة لتنفيذه في الأراضي المحتلة عام 1967.
وفي الفصل الثاني تناولنا، وبشكل مفصل، استراتيجية الصهيونية للتخلص من الشعب العربي في فلسطين لتحقيق الأكذوبة الكبرى (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض) وذلك من خلال الترحيل (الترانسفير) لأنه الوسيلة المثلى لنفي الآخر، ماديا وسياسيا، وكي يكون البحث مفيداً، رأينا أن نستعرض في البداية تطور فكرة الترانسفير في الأيديولوجية الصهيونية منذ ما قبل مؤتمر بال 1897 إلى وقتنا الراهن، ومن ثم سلطنا الضوء على التطبيق العملي لمبدأ الترحيل، وأشرنا إلى تقاسم الأدوار بين الأطراف المختلفة في الحركة الصهيونية سابقاً، وفي إسرائيل لاحقاً للتخلص من الفلسطينين.
ولاعطاء البحث القدر الأكبر من المصداقية، حاولنا استشفاف الموقف الإسرائيلي من مسألة الترحيل، في ظل التسويات المحتملة، ولا يفوت الباحث أن يؤكد أن للترحيل من الناحية العملية، طرائق عدة أهمهما وأكثرها انسجاماً مع الرؤية الصهيونية الحرب والمجازر. ونذكر القارئ العزيز أن الترحيل، وحرمان اللاجئ من العودة، هو الأبارتيد، استناداً إلى مبادئ القانون الدولي.
وفي الفصل الثالث نسلط الضوء على شكل ملموس من الأبارتيد الصهيوني يمارس وفق ما يعرف بلعبة العدالة البريطانية The Baritish Game Of Justice فثمة قوانين وتشريعات تصدر عن الكنيسيت وكل السلطات الرسمية الإسرائيلية هدفها الأساسي المعلن هو التمييز ضد العرب الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، ولقد عملنا جاهدين لدراسة نصوص القوانين ذاتها، وليس ما كتب عنها.
وفي الفصل الرابع، نتناول واحدة من أهم مظاهر الأبارتيد، وإحدى آليات تكريسه التي قلما درست من هذا المنظور ـ منظور خلق المعازل (الغيتوات أو البانتسوستانات). فبدون الاستيطان والطرق الالتفافية لا يمكن أن تخلق المعازل وتطوق التجمعات العربية وتفصل بعضها عن بعض. وأهمية المنظور التاريخي الذي اعتمدنا عليه أنه يكشف لنا كيف أن فكرة خلق المعازل جزء لا يتجزأ من الأيديولوجية الصهيونية. وكيف أن حماتها البريطانيين، لم يكتفوا بتقديم الأرض والحماية للاستيطان الصهيوني، بل وفي كثير من الأحيان، اختاروا مناطق الاستيطان، ورسموا خرائطه. ولئن كان جوهر خلق المعازل واحد، فإن آليات تنفيذه في الأراضي المحتلة عام 1948، وفي الأراضي المحتلة عام 1967 مختلفة من ناحية الكم.
وفي الفصل الخامس درسنا ما أطلقنا عليه (اللاسامية المعكوسة) أي متاجرة الصهيونية بالدم اليهودي منذ ما قبل مؤتمر بال، وبينا كيف تحالفت الصهيونية مع مرتكبي المجازر ضد اليهود في روسيا القيصرية، إيطاليا الفاشية، وألمانيا النازية. ولم يكن الهدف استعراض الأحداث التاريخية، رغم أهميتها، بل الوصول إلى الاستنتاج القائل إن الاصرار على تكريس ذهنية أوسشيفيتس (المحرقة) ينبع من إصرار الصهيونية على تكريس حالة الغيتو لدى اليهود ورغبتها في تأجيج التطرف الفاشي بينهم وخلق حالة ذهنية معينة لدى اليهودي العادي، واحتمال استخدام اللاسامية ضد اليهود أنفسهم، وخلق مجتمع يقدس القوة ويعبدها، لكن تلك القوة قد تكون سبباً في تدميره تماماً كما كان مصير الفاشية والنازية. وليس بعيداً اليوم الذي تتشكل فيه جبهة عالمية لمواجهة الفاشية الصهيونية.
الصعوبات:
كثيرة هي الكتب والدراسات التي تناولت مسألة التمييز ضد العرب في القوانين والتشريعات الإسرائيلية، لكننا نظن أن هذه أول دراسة تحاول أن تسلط الضوء على الأبارتيد الصهيوني من كل جوانبه، ومن خلال سيرورته التاريجية، وتتحدث عن مستقبله، انطلاقاً من مستقبل تجارب الأبارتيد في أماكن أخرى من العالم، صحيح أننا نحاول الابتعاد عن التعميمات النظرية، والتسطيح والتبسيط والاستقراء الصوري بالقدر الممكن، ونحرص على أن نقدم وجهة نظر متكاملة، وهذا يعني أنه يمكن أن تكون في البحث بعض القضايا الإشكالية من جهة، وبعض الأخطاء، ونحن مسؤولون عنها.
اعتراف بالجميل:
اشعر بالامتنان لكل الزملاء والأخوة الذين قدموا لي المساعدة في الحصول على المصادر المطلوبة، وكذلك الأخوة الذي ناقشوا الأفكار المختلفة الواردة في الكتاب قبل صياغتها صياغة نهائية. وقد استفدت كثيراً من آرائهم، ولقد استفدت كثيراً من وجودي خلال عقد الثمانينات في مؤسسة الأرض للدراسات الفلسطينية للاطلاع على المصادر الإسرائيلية، وأنا ممتن لذلك.
وأشكرالعاملين في دار الشجرة للدراسات والنشر والخدمات الطباعية، خصوصاً الزميلتين منال غنيم ومي شهابي على جهودهما في طباعة الكتاب وتنضيده.
0 تعليقات حول الموضوح:
إرسال تعليق