د ر ا ســــــة ¦¦ الأبارتيد الصهيوني (ج 2) ¦¦‏‏

الفصـل الأو َّل :الأبارتيد المقارن

( قبل الدخول في البحث عن الأبارتـيــد، تعريفه، أصوله، مظاهره، دور الغزو الاستعماري الأوربي في نشأته، دور المستوطنين، والاستيطان الأبيض في بناء الكيانات الاستيطانية التي مارست الأبارتـيــد، علاقات سلطات الأبارتـيــد مع السكان الأصليين سواء خلال حملات إبادة الجنس Genocide أو إبادة الشعب Ethnocide، أو خلال ممارسة سياسات العزل العنصرية Racial segregation، القوانين والتشريعات التي كرست الأبارتـيــد كواقع حياتي تقسم الشعوب على أساسه إلى من يتمتعون بكل شيء ومن يحرمون من كل شيء، قبل الدخول في ذلك من المفيد القول إن مصطلح الأبارتـيــد ظهر أول مرة في جنوب أفريقيا عام 1944، وقد صاغه الدكتور د.ف.مالان،D.F.Malan زعيم الحزب القومي في جنوب أفريقيا، وخاض الانتخابات على أساس ذلك الشعار الذي ساهم في ائتلاف قوى يجمع كل الفئات والطبقات الافريكانية (البيض وهم من أصول هولندية وأوربية ويتكلمون لغة تعرف بالافريكانية)(1) واستمرت ممارسة الأبارتـيــد رسمياً في جنوب أفريقيا مدة أربعة عقود، وقد حظيت هذه السياسة بالدعم الكامل من الكنيسة الإصلاحية الهولندية، وهي كنيسة بروتستانتية تؤمن بأن عدم مساواة الأعراق مشيئة إلهية، وأن السود الذين تعتبرهم الكنيسة من أحفاد حام بن نوح، وجدوا ليخدموا البيض أحفاد سام. واعتبر البوير، وهم فلاحون هولنديون اعتنقوا البروتستانتية في القرن السادس عشر، وشكلوا القاعدة المادية للمستوطنين البيض في جنوب أفريقيا، اعتبروا إلغاء العبودية مخالفاً لتعاليم الكتاب المقدس، وبالنسبة للأفريكانيين البيض يعتبر الزنوج الأفارقة منحطين، غير متحضرين مهمة الرجل الأبيض تحضيرهم وتحديثهم.(2) وعندما أصبح ف.و.دي كلارك F.w.Deklerk زعيما للحزب القومي عام 1989 وأطلق سراح نيلسون مانديلا ورفاقه المعتقلين في السجون العنصرية عام 1992، عارضت الكنيسة الإصلاحية الهولندية هذه الإجراءات التي أدت إلى انتصار المؤتمر الوطني الأفريقي بزعامة مانديلا عام 1994 وبذلك انتهت سياسة الأبارتـيــد رسمياً في جنوب أفريقيا. (3) وتعني أبارتـيــد apartheid بالأفريكانية العزل Separateness أو الفصل apartness وهي عملياً السياسة التي حكمت العلاقات بين الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا والأغلبية من الملونين الأفارقة والآسيويين، وأسست وبالتالي شرعنت الفصل العنصري Racial Segregation ، والتمييز الاقتصادي والسياسي ضد غير البيض. وسياسة الأبارتـيــد التي تعرف غالباً بالتطور المنفصل منذ الستينات، أصبحت ممكنة نتيجة قانون تسجيل السكان عام 1950 الذي صنف كل سكان جنوب أفريقيا إلى سود Bantus ملونيين Colored، أو بيض، وفيما بعد أضيفت فئة رابعة للآسيويين وشملت الهنود والباكستانيين.‏(4)‏

ومن البديهي أن منشأ الأبارتـيــد هو العنصرية Racism، أي الاعتقاد الذي يتحول من خلال الممارسة العملية إلى سياسة تحيلنا إلى موقف سبقي Prejudice أو موقف سالب أو موجب، كون مقدماً دون دلائل كافية يتمسك به أتباعه ومؤيدوه بانفعال يصل إلى حالة العصاب أحياناً. ويزعم العنصريون تفوقهم العرقي على بقية الأعراق الأخرى. واستناداً إلى هذا الزعم الذي يرقى إلى مرتبه الإيمان عند أتباعه تقسم البشرية إلى أنماط مختلفة من الجماعات والشعوب على أساس اللون، وتطلق عليهم الأوصاف الاجتماعية والأخلاقية استناداً إلى الفئة التي ينتمون إليها. (5)‏

وعندها تصبح العنصرية سياسة رسمية للدولة، تقر القوانين التي تكرسها. ففي الولايات المتحدة، وحتى العقد السادس من القرن العشرين، كان القانون الفيدرالي الأمريكي يسمح بالتمييز العنصري في مجالات العمل والسكن والتعليم والخدمات والمرافق العامة، والتصويت في الانتخابات والوضع القانوني للأفراد أمام المحاكم العامة. (6) وعندما صعدت النازية إلى الحكم في ألمانيا في الثلاثينيات، وفي سبيل تكريس تفوق العرق الآري The Aryan Race ارتكب النازيون مجازر بشعة داخل ألمانيا وخارجها ضد الأقليات الدينية والأثنية وشعوب المناطق التي احتلتها القوات النازية. وجرى تقسيم شعوب العالم على أساس عرقي بحت. وفي جنوب أفريقيا، أصبح الأبارتـيــد سياسة رسمية عندما تسلم الحزب القومي السلطة عام 1984، وصدر عام 1950 ما يعرف بقانون مناطق الجماعات The Group Areas Act الذي حددت بموجبه مناطق معينة داخل المدن لكل من الأعراق المختلفة ومنع الاختلاط في السكن والعمل، وكذلك تملك الأراضي خارج المناطق المحددة. وفي عامي 1954 و1955 صدر قانونان آخران، عرفا مع قانون عام 1950 بقوانين الأرض، التي جاءت مكملة لعملية طويلة استمرت ما بين عامي 1913 و1936. وسيطرت بموجبها السلطات العنصرية على أكثر من 80% من الأراضي، وأجبرت الزنوج على الحصول على تصاريح مغادرة بموجب ما عرف باسم Pass laws قوانين المرور والمغادرة، وصدرت قوانين حظرت كل أشكال الاتصال الاجتماعي وأسست لما يعرف بالفصل العنصري تمهيداً لتطبيق سياسة التطور المنفصل. (7) وفي إسرائيل، وبسبب الإصرار الصهيوني الذي يصل إلى مرحلة الاستلاب Alienation على يهودية الدولة، كما تنص على ذلك وثيقة ما يعرف بإعلان دولة إسرائيل الصادرة في أيار عام 1948، تتيح القوانين الإسرائيلية علانية وبلا أية مواربة، التمييز ضد غير اليهود في كل المجالات.‏

وتؤكد الدراسات التاريخية أن الأبارتـيــد هو ثمرة النظام الاستعماري الاستيطاني، الذي شهدته مناطق مختلفة في العالمين القديم والجديد في القرن السابع عشر، علماً أن مصطلح الاستعمار الاستيطاني حديث نسبياً ويعود تاريخ ظهوره إلى الستينيات من القرن العشرين. ورغم أن الباحثين اتفقوا على خصائص النظام الاستعماري الاستيطاني، إلا إنهم لم يتفقوا على تعريفه وهذه بعض الأمثلة.‏

* في عام 1971 نشر الدكتور جورج جبور بحثاً في المجلة المصرية للقانون الدولي، تحت عنوان «الطبيعة العنصرية للاستعمار الاستيطاني والمسائل القانونية الناجمة عنه». وحاول د. جبور في هذا البحث تعريف الاستعمار الاستيطاني بقوله: «ثمة حالة استعمار استيطاني في كل مرحلة حدث فيها، في العصر الحديث، أن قام غرباء (هم في الأغلبية أوربيون) بالاستيطان في قطر معين أو أرض معينة لا تخصهم وحيث جاء هذا الاستيطان نتيجة التأييد الضمني أو العلني للنظام والقوى السياسية الأوروبية، وحيث أخذ المستوطنون، بعد توطيد استيطانهم، بممارسة السلطة فوق ذلك القطر أو تلك الأرض، وفوق كل من كان ولا يزال في ذلك القطر أو تلك الأرض من سكان أصليين»، ويضيف الباحث أن الاستعمار الاستيطاني يتضمن نقل السكان من أوربا، وزرعهم في المناطق المكتشفة حديثاً في العالم من قبل الأوربيين، ثم تأييد النظام الأوربي كل محاولات الاستيطان المختلفة، وأخيراً ممارسة المستوطنين للسلطة فوق الإقليم الجديد بمشاركة الدولة الأم. أولاً ومن ثم بشكل مستقل عنها. (8)‏

ويلاحظ أن هذا التعريف مفصل ليناسب الوضع في إسرائيل وجنوب أفريقيا سابقاً وروديسيا سابقاً (زيمبابوي حالياً).‏

* قدم الدكتور سميح فارسون، من قسم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في واشنطن، د.س بحثاً تحت عنوان «جنوب أفريقيا وإسرائيل ـ علاقات خاصة» وذلك في المؤتمر الذي عقد حول الاتجاهات الاجتماعية ــ الاقتصادية والسياسية في جنوب أفريقيا برعاية المعهد الأفريقي للتنمية والتخطيط التابع للأمم المتحدة ومقره في داكار عاصمة السنغال. وعقد المؤتمر في دار السلام في الفترة ما بين 29 تشرين الثاني و 12 كانون الأول 1975 وأعيد نشر البحث ضمن كتاب السيدين ستيفنس والمسيري «إسرائيل وجنوب أفريقيا» تحت عنوان «الاستعمار الاستيطاني وديمقراطية السادة (الشعب المختار)».‏

يرى الدكتور فارسون أن العامل الأكثر أهمية في تحديد هوية الاستعمار الاستيطاني هو (أن العلاقة تتمثل في علاقة المستوطنين بالسكان الأصليين، وفي علاقتهم بالأرض، ومعنى ذلك أنه لا ينبغي التركيز فقط على أهمية عنصر السيطرة على الأرض، وإنما ينبغي تحديد موقف السكان الأصليين وحالتهم. ثم يقول الدكتور فارسون عن ديمقراطية الشعب السادة The Herrenvolk Democracy إنها تتميز بازدواجية تتمثل بديمقراطية برلمانية للمستعمرين المستوطنين ونظام استعماري للسكان الأصليين. ويركز الدكتور فارسون جل اهتمامه على التجربة الإسرائيلية فيوضح كيف جرت محاولة الاستيلاء على الأرض على حساب السكان الأصليين، وبينما أتاحت القوانين في جنوب أفريقيا للبيض السيطرة على 93% من الأرض بموجب ما يعرف بقانون الأراضي للسكان الأصليين لعام 1913 1913) (The Natives land Act of وتغيرت النسبة إلى 87% عام 1936، حاول الإسرائيليون في البداية الاستيلاء على الأراضي من خلال الشراء، ومن ثم جاءت القوانين التي سنتها إسرائيل وخصوصاً قانون أملاك الغائبين لعام 1950 لتشرعن الاستيلاء على أراضي اللاجئين الفلسطينيين الذين طردوا من قراهم ومدنهم عام 1948. (9) من خلال ما عرف بأملاك الغائبين Absentee Verdict.‏

وبالنسبة لعلاقة المستوطنين مع الدولة الأم يقول الدكتور فارسون إن ثمة تناقضاً مزدوجاً في هذه العلاقة، فهي غير متوافقة مع مصالح السكان الأصليين، وكذلك الأمر بالنسبة للرأسمالية في البلد الأم، ولذلك يبدأ التناقض التناحري أو اللاتصالحي على الأقل بين مصالح المستوطنين وكلا الجانبين الآخرين، وعندما تنشب حرب الاستقلال السياسي للسكان الأصليين، يجد المستوطنون أن وجودهم في خطر ويخوضون حرباً لاهواده فيها على جبهتين ـ حرب بكل المعنى ضد السكان الأصليين، وحرب أخرى من حين لآخر ضد الدولة الأم، قد تكون عنيفة جداً في بعض الأحيان. (10)‏

ولا شك في أن هذا التعريف ينطبق على حالة الولايات المتحدة، كندا، الجيش السري الفرنسي في الجزائر، ولكننا لا نظن أن أحداً يمكن أن يصدق أكذوبة الصهيونية حول ما تسميه بحرب 1948 (حرب الاستقلال) ضد الانتداب البريطاني.‏

* في كتابه النظام السياسي والاستيطاني ـ دراسة مقارنه ـ إسرائيل وجنوب أفريقيا، الصادر عن دار الوحدة 1981، يقول الدكتور مجدي حماد في خلاصة مبحثه الأول الذي يحمل عنوان (التعريف بالاستعمار الاستيطاني) أنه يقوم على ثلاثة عناصر: (11)‏

1ـ الهجرة الاستيطانية‏

2ـ السيطرة المنظمة على الأرض‏

3ـ الغزو العلني، ومن ثم يضيف قائلاً إنه يلزم لقيام الكيان الاستيطاني الاستعماري ثلاث قواعد أساسيه هي :‏

1ـ القاعدة الديمغرافية وتتمثل في الهجرات الجماعية.‏

2ـ القاعدة الجغرافية وتتمثل في الاستيلاء على الأرض‏

3ـ القاعدة السياسية وتتمثل في غزو الإقليم وغزو السلطة.‏

* يركز ل. كوبر في كتابة «الطبقة والسلطة والعرق» الصادر في شيكاغو عام 1975 على سمتين أساسيتين من سمات الكيان الاستعماري الاستيطاني وهما:‏

1ـ المركز القانوني للمستوطنين حيث تتمتع كيانات المستوطنين البيض بتشريع يحدد بدقة علاقتهم بالدولة الأم أو المستعمرة.‏

2ـ يبرز عن الاستعمار الاستيطاني حالة متطرفة من التعدد الثقافي.‏

هذا التحديد صحيح نسبياً، لكن ثمة دول لا يمكن اعتبارها كيانات استعمار استيطاني ولكن يبرز فيها وبوضوح حالات من التعددية الثقافية تصل في بعض الأحيان إلى التناقض التناحري، وثمة أمثلة كثيرة على ذلك في دول الشرق الأوسط. (12)‏



الهجرة الاستيطانية‏

إن الهدف الأساسي للاستعمار الاستيطاني هو أن يتحول الاستيطان من حقيقة مادية اجتماعية / اقتصادية إلى حقيقة سياسية كيانية مستقلة عن الدولة الأم أو مرتبطة بها. ولا يمكن لموجات الهجرة إلى مركز الاستيطان أن تكتسب هذه الصيرورة إلا إذا كانت مرتبطة بقوة خارجية تنظمها وتمولها وتشرف عليها وتحدد لها أهدافها. وسنبين في فصل لاحق كيف اشرف ضباط بريطانيون على اختيار مواقع المستوطنات اليهودية في فلسطين، وكيف وفروا لها الحماية والتمويل، وبالمقابل كيف تعاونت أيضاً المنظمة اليهودية العالمية مع بريطانيا وألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية للحصول على دعم هذه الدول، بغض النظر عن الخلافات السياسية بينها حول المشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين.‏

ومن خلال مقاربة تاريخية بسيطة يتضح لنا، أن دور المنظمة الصهيونية العالمية، والوكالة اليهودية، باعتبارها الذراع التنفيذي والمسؤولة بالشكل العملي والمباشر عن تنفيذ المشروع الاستيطاني الصهيوني، والإشراف عليه، وقيادته حتى يتحول إلى دولة، أن هذا الدور، من حيث الجوهر، لم يختلف كثيراً عن دور الشركات الاستعمارية التي شكلتها الدول الاستعمارية في القرنين الثامن والتاسع عشر لتنفيذ مشاريعها الاستعمارية، ووفرت لها كل الدعم والحماية العسكرية، ومن بين الشركات الاستعمارية نذكر: (13)‏

شركة بورنيو البريطانية وتشكلت عام 1881‏

شركة أفريقيا الملكية للبريطانية وتشكلت عام 1888‏

شركة جنوب أفريقيا البريطانية وتشكلت عام 1889‏

شركة الهند الشرقية البريطانية.‏

ومنذ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين، اعتبرت سلطات الانتداب الوكالة اليهودية دولة ضمن الدولة، ووضعت رغباتها ومصالحها على رأس سلم أولوياتها السياسية، ولم تدخر جهداً في سبيل تسهيل استيلائها على الأراضي، سواء بالترغيب أو الترهيب أو المنح من الأراضي الأميرية التي تشرف عليها سلطات الانتداب.‏

والهجرة إلى مركز الاستيطان تختلف من حيث النوع والكم عن أنواع أخرى من الهجرات البشرية، فهي ليست هجرة موسمية أو مؤقتة، وليست بحثاً عن العمل أو الانتقال إلى مكان آخر للعيش فيه، بل إنها تتخذ أحياناً شكل التهجير الإجباري، كما فعلت الحكومات البريطانية المتعاقبة التي هجرت خلال فترة 1788 و 1867 أكثر من 150 ألف مجرم إلى استراليا، وكذلك الاتفاقات التي وقعتها المنظمة الصهيونية العالمية مع ألمانيا النازية لتهجير عشرات آلاف اليهود من ألمانيا والمناطق التي احتلتها، والأساليب التي اتبعتها لجعل اليهود في روسيا، العراق، المغرب، اليمن، أثيوبية وأماكن أخرى من العالم لا يملكون خياراً سوى الهجرة إلى فلسطين ـ واليكم بعض الأمثلة:‏

* في عام 1895 التقى تيودور هرتزل مع القيصر الألماني، وكتب تيودور هرتزل في مذكراته قبل اللقاء: (سأقول للقيصر: اتركونا نرحل! فنحن مختلفون عنكم، كما لا يسمح لنا بالاختلاط مع أهل هذه البلاد ولا نقدر على ذلك) وفي عام 1896 كتب هرتزل في مذكرته «إن أعظم أنصاري اليوم هو إيفان سيموني المعادي للسامية». وعندما التقى هرتزل وزير خارجية روسيا القيصرية المعروف بعدائه الشديد للسامية، قال له هرتزل «لكم قلت للمرحوم الإمبراطور اسكندر الثالث لو استطعنا إغراق ستة ملايين يهودي في البحر الأسود لاكتملت سعادتي» لأن اليهود الباقيين سيسارعون بالهجرة إلى فلسطين حسب اعتقاد هرتزل. (14)‏

* تشير وثيقة من المحفوظات السرية لوزارة الخارجية الألمانية مؤرخة في 23/6/1937 إلى وجود اتفاق بين الرايخ الهتلري والوكالة اليهودية يقضي بتهجير اليهود إلى فلسطين تؤكد «هذا الإجراء الذي تفرضه اعتبارات متعلقة بالسياسة الداخلية، قد يساهم في دعم اليهود في فلسطين ويسرع في إقامة الدولة اليهودية الفلسطينية» وفي 27/1/1937 صرح كلوديوس، المستشار السياسي لهتلر «إن مسألة هجرة يهود ألمانيا قد بت فيها بقرار من الفوهرر ـ يوافق على الاستمرار» ويتحدث ثاثان إليه ـ مور: أحد قادة شتيرن أحد أفراد الجماعة الموفدين إلى النازيين أثناء الحرب عام 1948 فيقول : (اعتبرت مشروعاتنا المتعلقة بالهجرة الجماعية بمثابة ميزة اضافية للألمان، فهي تحقيق لأحد أهداف النازية المعلنة (تخليص أوروبا من اليهود). (15)‏

وعي الذات:‏

شكلت آراء الفلاسفة من أمثال جورج لويس دي بوفون 1707ـ1788 Georges Louis Leclerc de Buffon وجوزيف اثر غوبينو 1816ـ1882 Joseph Arthur Goubineu مؤلف كتاب «بحث في اللامساواة بين العروق»، أساساً فكرياً لاعتبار الشعوب غير البيضاء بدائية، وساعدت بالتالي في تسويغ الغزو الاستعماري واسباغ المسحة الحضارية على الرجل الأبيض الذي يأتي التقدم على يديه، وبشرت بالتالي بنموذج راق للإنسانية يتمثل بالجنس الأبيض. (16) فالعلاقة بين الرجل الأبيض والشعوب الأخرى مثل العلاقة بين (المدينة والصحراء) والاستعمار الاستيطاني الذي ينتشر في مختلف البلدان، كما يرى الجنرال سمومتس، زعيم جنوب أفريقيا، وصديق حاييم وايزمن، ومن سهل له الدخول إلى كل دوائر اتخاذ القرار في العاصمة البريطانية للحصول على وعد بلفور في عام 1917 «الاستعمار الاستيطاني هو «مدينة البيض» ومن يقومون بهذه المهمة لهم سمات مشتركة كما يقول هـ.س.ارم سترونغ H.C.Armatrong وذلك في معرض مقارنته بين البوير في جنوب أفريقيا والمشروع الاستيطاني في فلسطين «أن للبوير واليهود الخلفية ذاتها كشعبين، الهولنديون في الحقول، واليهود في الصحراء، ولهما السمات ذاتها، فكلا هما شعبان مران قاسيان، يتمسكان بالدين بشكل قوي في حياتهما معتمدين على الكتاب ذاته ـ كتاب العهد القديم». (17)‏

والعرب لدى سموتس، كما يقول كاتب سيرته، «ليسوا غريبين بالنسبة للجنوب أفريقيين بقدر غرابتهم بالنسبة للأوربيين، لأن الجنوب أفريقي يعرف جيداً ذوي البشرة الداكنة، وهم بالتأكيد أناس يشبهون العرب، وربما ثمة دم عربي يجري في عروقهم، وطيلة حياته كان الجنوب أفريقي يعيش محاطاً بهؤلاء الناس ذوي البشرة الداكنة، وهم كالبدو يعيشون في أكواخ أو يهيمون في البراري. وهم لطيفون، وشجعان وشاعريون أكثر مما ينبغي، وما لم تجبرهم المدينة، سيمضون حياتهم، كالبدو، يعملون، ويتكاثرون ولا يملكون شيئاً».(18)‏

وبالنسبة لسموتس كأوروبي، يبدو العرب وذوو البشرة الداكنة غريبين.‏

وعندما حدثت النكبة وطرد العرب من قراهم ومدنهم، عبر قادة جنوب أفريقيا عن حماسة لا مثيل لها لإسرائيل، واعتبروا انتصارها انتصاراً للبيض على غير البيض وهذا يذكرنا بتعليق مناحيم بيغن عندما وصلته الأخبار عن مجزرة صبرا وشاتيلا إذ قال «غير اليهود يقتلون غير اليهود».‏

أما بالنسبة لإسرائيل ذاتها، فقد كتب مؤسسو الحركة الصهيونية سابقاً وقادة إسرائيل لاحقاً الكثير عن علاقة إسرائيل بالغرب، وكيف أنها ستكون قلعة للحضارة الغربية في مواجهة الهمجية والتخلف، كما كان يقول هرتزل، أو أنها ستكون حاملة طائرات لا تغرق للولايات المتحدة في الشرق الأوسط كما يقول ارئيل شارون، أو أنها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تقوم على قيم الديمقراطية التي يؤمن بها العالم الغربي الحر. لكن المهم لنا، كيف نظر قادة الصهيونية وإسرائيل إلى أنفسهم عرقياً؟ إلى أي مدى كانوا على استعداد للدفاع عن ساميتهم المزعومة؟‏



بكل بساطة نقول إن قادة الصهيونية وإسرائيل اعتبروا أنفسهم بيضاً أوربيين.‏

وهذه الأمثلة:‏

* يقول ارثر روبن Arthur Ruppin في بحثه «اليهود اليوم» إنه يفضل أن ينظر إلى اليهود باعتبارهم من العرق الأبيض، ويفضل أن توجه ضربة إلى السامية. والفرق بين اليهود والأوربيين حسب اعتقاده من الأفضل ألا ينظر إليه على أساس أنه ثمرة زواج مختلط. والمقصود باليهود هنا هم الأشكناز الغربيون. وحتى عام 1948 كانت الصهيونية تصر على تهجير اليهود الأوربيين، وتسعى جاهدة لاستثناء السفارديم من الهجرة. ولم يكن ارثر روبين سعيداً لهجرة اليهود الشرقيين الذين «ينحدرون من مكانه روحية وثقافة متواضعة جداً ستؤدي بشكل عام إلى تدني مستوى اليهود الاشكناز في فلسطين. واليهود الشرقيون الذين يهاجرون بأعداد صغيرة سيكونون مفيدين لأنهم يعرفون التقاليد السائدة، ولأن حاجاتهم قليلة. والأهم من ذلك لأن لديهم مقدرة على العمل الزراعي بأجور منافسة للعرب». ويقارن روبين بين المزارعين المثقفين والصناعيين المهرة الذين يحصلون على مستويات عالية من الدخل، ومجتمعات فقيرة تسودها الأمية ولا تشبه الصهيونية بأي شكل. (19)‏

* بعد حرب تشرين زار دايان جنوب أفريقيا عام 1974 وألقى كلمة في الجالية اليهودية هناك قال فيها:‏

«إن أكبر مشكلة تواجه اسرائيل هي أن اليهود الشرقيين يتفوقون عددياً على اليهود الغربيين» وناشد موشي دايان يهود جنوب إفريقيا مساعدة اسرائيل في حل هذه المشكلة عن طريق الهجرة إليها. (20)‏

* يقول أبا ايبان، وزير خارجية اسرائيل الأسبق، وهو يهودي هاجر من جنوب إفريقيا.‏

«بعيداً عن القول إن المهاجرين اليهود الشرقيين يشكلون جسراً للتعامل مع العالم المتحدث باللغة العربية، سيبقى من واجبنا حقن هؤلاء اليهود بالروح الغربية بدل أن نسمح لهم بجرنا إلى شرقية غير اعتيادية».‏

* منذ مطلع 1948 حاولت قيادة الحركة الصهيونية إقناع الفيلسوف والعالم البرت اينشتاين قبول تسلم منصب رئيس الدولة في إسرائيل عند إعلان قيامها. ومن المعروف أن بن غوريون بذل مساعي حثيثة في هذا المجال مع اينشتاين، وكذلك فعل حاييم وايزمن. وفي أحد اللقاءات بين وايزمن واينشتاين سأل الأخير وايزمن اذا حصل اليهود على فلسطين، ماذا سيكون مصير العرب؟ فأجاب وايزمن ببساطة انهم لاشيء تقريباً. (21)‏

وما يقوله وايزمن ينسجم تماماً مع مفهوم الاستعمار الاستيطاني للسلطات الأجنبية، فقد اعتبر الاستعماريون، الدول غير الأوربية خالية من السكان أو خالية من الحضارة. وأن السكان الأصليين يصبحون خارج أية معادلة عند الحديث عن مستقبل البلاد. ولا يكلف الاستعمار الاستيطاني نفسه بتحليل مستوى التطور القومي للسكان الأصليين ومضمون ثقافتهم وحاجاتهم أو مصالحهم، وحتى إمكانية أخذ رغباتهم في الحسبان أو حتى مجرد الاطلاع عليها. ولا مجال عنده للحديث عن حقوق هؤلاء السكان ناهيك عن حقهم في تقرير المصير كغيرهم من البشر.‏

* في مقابلة مع صحيفة صندي تايمز بتاريخ 15/6/1969 قالت غولدا مائير رئيسة وزراء اسرائيل في تلك الفترة.‏

«ليس للفلسطينيين وجود. إن المشكلة ليست مشكلة وجود شعب في فلسطين يعتبر نفسه الشعب الفلسطيني، وليست المشكلة أننا طردناهم وأخذنا أرضهم عندما حضرنا، منهم فهم لم يوجدوا أساساً». (22)‏

هذا التعالي المتغطرس الذي يجسد الوجه الآخر للدونية، هو نفسه إحساس المستوطنين بالاستعلاء على السكان الأصليين الذين اعتبروا بمثابة برابرة اتيحت لهم فرصة التعرف على منجزات الحضارة الغربية وهو ينبع من مجموعة الأساطير نفسها التي طالما رددها المستوطنون كما يقول المفكر المعروف مكسيم رودنسون والتي تزعم أن الأراضي التي يجري استيطانها خالية من السكان لا يملكها أحد. (23)‏

وهذا المنطق هو الذي وحد المستوطنين في أكثر من مكان، لأنه بالنسبة إليهم يشكل القضية الأساسية لمستقبلهم. لنقرأ ماذا يقوله بيان وزعته قيادة الجيش السري الفرنسي الذي كان يحارب سياسة ديغول الرامية للانسحاب من الجزائر:‏

«برأينا للإسرائيليين كل الحق، ومثل فرنسا في الجزائر، أن يبقوا في البلاد التي أخضعوها بعملهم، وخلقوها من لاشيء وهي بكل بساطة لهم وحدهم، إن الحقائق على الأرض تدمر كل الأوهام، ولا يبقى سوى خيار واحد ووحيد: ـ إما أن تقهر إفريقيا على نطاق كوني شامل أو نقبل باختناق دولة إسرائيل في زمن ما، وبما أن الأمر هكذا، نحن مقاتلو الجيش السري الفرنسي نحيي جنود إسرائيل الذين يعملون وحدهم، مثلنا، لحماية حضارتنا المشتركة». (24)‏

0 تعليقات حول الموضوح:

إرسال تعليق